تيزي نوشك: قرية مستدامة ومتضامنة
في تيزي نوشك، وهي قرية صغيرة في الأطلس الكبير، قام رشيد مديلي، وهو من أبناء القرية، بتطوير العديد من المشاريع، لا سيما في قطاع الماء الشروب، و الهدف دائما جعل تيزي نوشك، قرية نموذجية في المنطقة.
« تيزي نوشك » مكان تجتمع فيه معالم الابداع وخيوط الابتكار، مكان يترجم إرادة انسان؛ كفاحه الروحي والجسدي…هي قرية حطمت كل أبعاد الاحكام المسبقة على ساكنة الٍارياف والمناطق الجبلي،. لا اعلم هل هي حقيقة او نسج من الاحلام، كل جزء في هذه القرية يسرد حكاية مختلفة تحيط بها أفكار بناءة وعمل جبار.
عندما وطئت قدماي اول مرة هذه الأرض المباركة، استشعرت شيئا غريبا لكنه جميل، ينتابك إحساس ان لكل جزء في هذه الأرض دور محدد وذكي يحمل معالم التنمية على سطحه، لم أكن اعلم انني سأرى كل هذه الأشياء في قرية وسط جبال الاطلس الكبير بعيدا عن كل سبل الحياة الحضارية والتسهيلات الموجودة في عالمنا المديني.
هل يمكن القول ان تعدد تجارب الانسان هو الامر الذي ينمي عناصر الابداع والذكاء الاجتماعي، نعم، هذا ما اتضح في قصة رشيد، رجل اتخذ من السفر مدرسة للتعلم والابداع ولم يبخل ان ينقل تجربته ويؤثثها في قريته، بل لم يفتأ ان يصنع من اسمها حروفا تتخللها خيوطا تتألق ببريق قوي في اعين ومسامع كل من مرت في دربه، رشيد المنديلي ولد عام 1976 في قرية تيزي نوشك بجماعة ستي فاطمة، التي تبعد عن مدينة مراكش بساعة و نصف من الزمن، ملهم نهضة القرية الذي غادرها في سن مبكر، بعدما عجز عن الاستمرار في الدراسة، نظرا لبعد المسافة و طبيعة الطريق الصعب في ظل الفقر المدقع.
و بهدف تأثيث هذا النص، يبدو من المعقول ان نتحدث عن أهمية الماء كعنصر حياة اولي و أساسي بل المحرك المسؤول عن تشغيل كل مكونات هذا الكون، لكن في المقابل لاحظنا بشكل واضح في هذه السنوات الأخيرة قلة التساقطات المطرية والثلجية، ان لم نقل جفاف واضح ومتتالي السنوات في بعض المناطق ويمكننا ان نتخذ قرية تيزي نوشك مثالا لهذا، اذ عرفت تراجع مهم في التساقطات المطرية عامة و الثلجية خاصة نظرا لاقتحامها الفرشة المائية, الشيء الذي يساعد على احياء العيون و استدامتها بحيث لوحظ بشكل جلي انخفاض عدد العيون من 7 عيون الى 3 عيون فقط، الامر الذي كان يساهم في الحفاظ على نسبة % 90 من النشاط الذاتي للساكنة او % 100 بحسب رشيد المنديلي بحيث يتم تعويض ذلك النقص بالماشية و كذا الزراعة كالخضر و الذرة و الشعير فمنها ما يتم تخزينه و منها ما يجري بيعه.
و قد أدى هذا الجفاف الى موت %50 بالمئة من الأشجار و كذا فاكهة التوت البري و %50 بالمئة من الكرموس « الباكور » فاكهة التين بين سنة 2018 و2023 بحسب رشيد المنديلي، الامر الذي ساهم بشكل قوي في تراجع نسبة و جودة الفلاحة في المنطقة و بالتالي انخفاض مستوى دخل العائلات ان لم نقل انعدام، فلا يمكننا فصل هذه السلسلة المتتالية، ان تحدثنا عن نقص المياه يستوجب ذكر تبعاتها و التي تأتي في مقدمتها تراجع الفلاحة، وهو الأمر الذي سيؤثر على الماشية مثل الأبقار والماعز والخراف التي تساعد الأفراد والأسر في كسب لقمة العيش من خلال بيع اللحوم والألبان وغيرها من المنتجات الحيوانية الأخرى. مما أدى الى التخلص منها عبر بيعها، نظرا لارتفاع مستوى الأسعار و بالتالي افتقاد عنصر ثاني مهم متعلق بضعف المستوى المعيشي والقدرة الشرائية.
في ظل كل هذه المعطيات، لا يمكننا النظر لهذه المعضلة من مستوى سطحي، فالأثار الباطنية لهذه الأخيرة اقوى من المعطيات التشخيصية، فان تعمقنا و لو بشكل متواضع، سنجد ان هذا الامر سيقلب التوازنات الاجتماعية في المنطقة، فالإنسان بطبعه لا يمكنه ان يظل بدون نشاط يقوم به خلال يومه مثلا الفلاح في القرية ماذا سيفعل؟ كيف سيستغل وقته؟ بل كيف سيضمن قوت عائلته؟ هل سيظل مكتوف الأيدي ؟ بطبيعة الحال لا. سيبحث و يتحرك, وسينتقل بين ربوع هذه الأرض وبالضبط هذا ما فعله رجال هذه القرية، الذين اتخذوا من الهجرة سبيلا و حلا لتعويض الخسائر فمنهم من توجه الى المدن و بالضبط مدينة كلميم الموجودة في صحراء مغربنا للعمل في البناء و منهم من اتخذ سبيل الخدمات المتعددة فيما يطلق عليه بالعامية « الموقف ».
لم يقف الامر عند هذا الحد بل منهم من رجع الى القرية ليس للبقاء، بل لأخد عائلته معه و هنا نصبح امام ظاهرة تتعلق بالهجرة القروية التي طالما تصدت لها الدولة و حاولت التخفيف منها، فعندما يتم فقدان مصادر دخل الشخص، لن يتمكن من تامين ابسط الحاجيات ونأخذ التعليم مثالا. وبهذا ها نحن مجددا امام تحدٍ جديد الهدر المدرسي بعد ظاهرة الهجرة. و هاهي سلسلة من الظواهر الاجتماعية منبعها الاولي الجفاف، هي علاقة سببية نتائجها متتالية ومترابطة، بهذا يمكننا القول ان التغيّر المناخي الناجم عن النشاط البشري أدّى إلى زيادة احتمالية حدوث الجفاف الامر الذي ساهم بشكل مباشر في استيقاظ مجموعة من الظواهر الاجتماعية و نأخذ الهجرة و الهدر المدرسي كمثال حي.
ان هاجس الهجرة عند السكان لم يأتي عبثا، فالإرهاصات التي رسمت هذا الفكر و التوجه هي جعة هذا الجفاف. الذي اصبح قاهرا في ظل ظروف صعبة ، و هذا ما يجعلنا بل يدفعنا الى إعادة التفكير في تبعات و نتائج هذا الجفاف , فالتأثير لن يكون فقط على المستوى الاقتصادي و كل ما يتعلق بهذا القبيل بل تأثيره اعمق و اقوى يمتد ليصل الى تغيير معالم قرية و عاداتها وطرق عيشها. حتى أن جملة أحرقت قلبي لما سمعتها من احد شيوخ المنطقة، يقول فيها « افتقدنا الابتسامة البريئة، افتقدنا تجمعاتنا كعائلة مع بعضنا و ها نحن اليوم اصبحنا مثل الغرباء كل ذهب الى بقعة يبحث عن لقمة عيشه و عيش عائلته و لم نستوعب لحد الان كمية التشتت و التفرقة التي نعيشها ».
لا يجب علينا التساهل مع هذه التغيرات فالتأثير يصبح اقوى يوم بعد يوم، بحيث ان تغير العادات أدى الى إعادة النظر في طريقة التفكير، و بالتالي تغير كبير في ردة فعلنا الامر الذي يطلق عليه في اللغة الفرنسية « la réaction » ، فالخطر الحقيقي ليس استنفاذ الموارد، لكن الخطير هو افتقاد عقول تتماشى مع خصوصية و توازن هذا الكون، و اذا اختل التوازن سنفقد او نفتقد الكثير، فدعنا نعيش هذا المشهد مثلا « عنما يصحى الانسان في تلك المنطقة القروية، و يلقي نظرة ليجد هيمنة اللون البني على أراضيه و اختفاء شبه تام للون الأخضر و كذا لماشيته التي كانت تعتبر جزءا من معيشه اليومي.
في ظل هذه الظروف الصعبة، عملت جمعية القرية بقيادة السيد رشيد منديلي، على مجموعة من المشاريع التي تميزت بالبساطة و الابتكار، هناك مشاريع اهتمت بشق الماء الصالح للشرب و الصرف الصحي و التشجير و الفلاحة و التصنيع. لكن الامر لم يكن بهذه السهولة، فأول شيء تم تأسيسه هو الجمعية، و التي اطلق عليها اسم جمعية « تيزي نوشك ». بحيث عمل المنديلي جاهدا على ان يستجمع كل خبراته التي اكتسبها من رحلاته و مزاولته لمهن و اعمال مختلفة، كالحدادة و النجارة و الطبخ و التوجيه و الاستقبال والتنشيط والبناء… و قد اخذ من هذه التجارب طريقة لاكتشاف المزيد من المعارف فبعد ان تنقل بعيدا بين مختلف المناطق المغربية، قرر الرجوع الى قريته، ليس للاستقرار فحسب و انما للاستثمار و التغيير، نظرا لارتباط قراراته بمجموعة من الأهداف المسطرة التي جعلت اليوم من قرية تيزي نوشك قرية نموذجية بساكنتها و طرق عيشها وامتزاجها المحبك بين الحضارة و التكنولوجيا، فقد قرر العودة مفكرا في إنشاء مشروع “جيت”، بدأه بشقة صغيرة، قبل أن يتطور ايجابيا بعد سلسلة من العلاقات التي نشأت بين الشاب وبين عدد من الأشخاص الذين زاروا القرية.
ان قرار منديلي، ببناء النزل في هذه القرية، لم يأتي عبثا او حتى صدفة، فتموقع القرية وسط سلسلة جبال الاطلس الكبير، المكان الذي يتوجه اليه عدد كبير من السياح الأجانب وحتى المواطنون المغاربة للاكتشاف و ممارسة رياضة تسلق الجبال، كان في حاجة ملحة و ماسة لوجود هذا النزل نظرا لمعاناة السياح الدائمة و رغبتهم في ايجاد مكان مناسب للمبيت بشروط و وضعيات ملائمة، الامر الذي كان يؤثر بطريقة سلبية على مدة مكوثهم في القرية، بحيث تميز هذا النزل بامتزاج رائع بين الحضارة و الثقافة الامازيغية من اثاث, و أكل و عادات و طرق استقبال وترحيب.
بعد انشاء هذا النزل « جيت »، عمل اهل القرية بقيادة السيد رشيد على تطوير بنيات الجمعية و تحديد قائمة من المشاريع المتنوعة التي يجب إنجازها، انطلاقا من الحاجيات الأساسية للقرية و استنادا بالدرجة الأولى على مواردها. فقد عمل اهل القرية على مشروع الماء الصالح للشرب انتقالا من استخدام طريقة التخزين الطبيعية « المطفيات » الى نقل الماء بطريقة مباشرة من الينابيع الى القرية، لتفادي نقل الامراض المعدية كالكوليرا و قد تم استكمال هذه العملية في سنة 2011 بإيصال الماء الصالح للشرب الى المنازل و كدا تفعيل مشروع الصرف الصحي، من خلال محطة تصفية الماء و إعادة استخدامها في السقي.
إن أول قرية عرفت هذه التقنية و لأول مرة في المغرب هي قرية تيزي نوشك .بمساعدة طالب مغربي باحث في سلك الدكتورة بالصين، حيث تم تطبيق هذه التقنية في القرية بتنسيق مع السيد رشيد منديلي. ان الفريد من نوعه في هذه التجربة انها طبيعة 100 % بدون مواد كيماوية باستخدام % 10 من النجارة % 10 من الفحم % 10 من الحديد و % 70 من الرمل المرمل . و بوضع الكل في محامل بحيث تتم عملية التصفية عبر مجموعة من المستويات المتتالية بمساعدة نوع من العشب يطلق عليه اسم le crasin . و بعد نجاح هذه التقنية تم تقاسمها مع مجموعة من الدواوير المجاورة نظرا لسهولتها و تكلفتها البسيطة.
كما تم التخطيط لإنشاء مشروع كبير للتشجير في المنطقة، بمساعدة منظمة الاطلس الكبير High Atlas Foundation و ذلك عبر حفر بئر بالقرب من الواد الموجود في القرية، الذي سيساهم بشكل قوي في عملية السقي بزرع ما يقارب 1400 شجرة متنوعة من فاكهة التوت، التين, شجرة النسرين … الامر الذي سيساهم و بقوة في تفعيل عمل التعاونية و ازدياد كمية انتاج المربى و بالتالي احتياج اكثر لليد العاملة و من ثم تحقيق دخل اقتصادي مهم للعائلات. و كذا التسويق على المستوى الوطني و لما لا الدولي في المستقبل، هذه هي استراتيجية القرية. كما ان هذا المشروع سيعمل على ضخ بشكل يومي 100 طون من الماء مما سيساعد القرية على بناء فلاحة قوية بكل مكوناتها و بالتالي إعادة تربية الماشية و استرجاع روتين الحياة الطبيعي. كما تمكن اهل القرية سنة 2017 من تشييد ملعب، حضر حفل افتتاحه عدد من الشخصيات البارزة، على رأسهم الناخب الوطني وقتها، الفرنسي هيرفي رونار كل هذا بسبب تظافر جهود كافة أبناء القرية حيث قاموا بمجهود يوصف بالجبار.
لا يسعنا هذا المقال لذكر مختلف المشاريع التي قام بها سكان هذه القرية، فالسر وراء تحقيق هذا النجاح هو رغبة الساكنة القوية و التخطيط الحكيم لرجل يمتلك ملكة التعلم و الانفتاح على مختلف الثقافات، فمن الجدير عدم تجاهل الدور الكبير الذي لعبه هذا النزل في تنمية المنطقة و كيف و ان صنف الناس الذين تبحث عنهم جمعية تيزي من أصحاب مشاريع من ممولين و نشطاء المجتمع المدني؛ هم الفئة المهمة عددا التي تستقبل في النزل، و بالتالي ضمان سيرورة عملية التواصل بشكل مرن و سهل، عوض البحث و التواصل معهم في وسائل التواصل الافتراضية عبر البريد الالكتروني و مختلف المواقع لمحاولة اقناعهم، لكن عندما يكون المعني بالأمر في الحدث عينه و بشكل مباشر يتمكن من رؤية رغبة الساكنة في التغيير و العمل. بحيث لعبت الساكنة دور اليد العاملة من الالف الى الياء في كل المشاريع التي ثم العمل عليها في المنطقة .
ان تكتل جهود الساكنة، شكل لوحة فنية، ممزوجة بصور الاتقان و الكد، فالكل يعمل يدا واحدة و لأجل هدف محدد و مشترك، فالتنمية التي عرفتها المنطقة لم تكن نتيجة تمويل المنظمات بل رغبة الساكنة في التغيير و الثقة العميقة الموجودة بينهم و بين أعضاء الجمعية و في مقدمتهم السيد رشيد، هناك تضحيات بل الأكثر من هذا هناك حب صادق، حب دون مصالح. لم تنتظر هذه الساكنة مقابلا ماديا لعملها في جميع المشاريع التي اشتغلت في إخراجها لأرض الواقع بل مكافاتهم تمثلت في تطوير قريتهم و النهوض بها لتصبح مثالا حيا بين جموع القرى.
ان عقلية المقاربة التشاركية في رفع مستوى وعي افراد القرية، بصمت بصمة قوية، حيث ان العمل اصبح يؤخذ بصفة الجمع و ليس الفردانية؛ هدف مشترك و جهود مكثفة تعطيان نتيجة مضمونة. كما ان هذه المشاركة تقترن بمشاعر الانتماء و تبني قاعدة متينة للتدخل. فتركيز مجموعة أوسع من الأشخاص اثناء عملية التخطيط يتيح الوصول إلى مجموعة أوسع من وجهات النظر والأفكار .وهذا ما تم اعتماده في استراتيجية هذه القرية، بقيادة رشيد المنديلي الذي لعب دور القائد المحترف بزراعته بذور الامل و الرغبة في قلوب شباب سكان المنطقة، فالوعي الذي اصبح اليوم عند السكان ,هو نتاج لعمل دؤوب و توجيهات صائبة و مضبوطة .
لم يعد يتكلم كل فرد في خطابه عن نفسه بل اصبحنا امام خطابات بصيغة الجمع تحت شعار « مصلحة القرية اسمى من كل شيء « فالمرتبة التي أصبحت تحتلها قرية تيزي نوشك اليوم جد مشرفة بين صفوف التنمية و الابتكار، و هذا ما يؤكد لنا ان الافراد اليوم في حاجة فقط لقائد ناجح يوجههم من اجل ايجاد مفتاح الباب الأول، و من ثمة تبدأ الانطلاقة الفعلية للعمل مع الحرص على ربط المجهود بالنتيجة.
كل هذه الصفات، تتمثل في هذه القرية النموذجية باشتغالها على مجموعة من المجالات منها ما هو تربوي و اقتصادي و اجتماعي و بيئي، حيث انطلقت الساكنة من العدم لتصل إلى ماهي عليه اليوم، فلم تعد مجرد نموذج يقتدى به على المستوى الوطني بعد تعدت ذلك الى الوصول للعالمية.
هدى بلخودة
Lisez l’article traduit en français sur le site d’Enass.ma.
Écoutez aussi le podcast de Houda Belkhouda: À Tizi N’Ouchag: faire face au stress hydrique.
Houda Belkhouda est lauréate de l’Institut national de l’action sociale (INAS) en spécialité développement territorial. Elle est militante au sein de plusieurs associations, et journaliste passionnée par les phénomènes sociaux. Bénévole à la radio associative Houma TV, elle est formatrice en protection numérique. Elle est actuellement volontaire avec l’organisation CorpsAfrica pour le développement des régions touchées par le séisme du Haouz. |
Ce reportage a été réalisé dans le cadre de la session Openchabab Environnement, avec le soutien de la Fondation Heinrich Böll. |