سيدة فراولة واحدة من بين الکثيرات
تضامناً مع المطالب السلمية والمشروعة للعدالة الاجتماعية التي يطالب بها حركة GenZ212، تتيح لكم En toutes lettres الوصول مجاناً إلى العديد من النصوص المنشورة في مجموعة Enquêtes، والتي تشهد على الظروف المعيشية غير اللائقة التي يعيشها مواطنونا.
”لم أذهب قط إلى المدرسة؛ إذ لم يلتحق بفصولها سوى الذکور من عائلتي، باستثناء أختي الصغرى، التي ترددت عليها، ووصلت إلى مستوى السنة الرابعة من المرحلة الإعدادية. وقد تزوجت عندما بلغت من عمري 15 عامًا، دون أي رغبة عندي في ذلک، بل کان الأمر مجرد امتثال لضغوط أبي القوية، التي أرغمني بها على القبول، أمام عدم وجود أي خيار آخر، رهن إشارتي. وکان زوجي يعمل في الجيش، فعشنا معاً لمدة أربع سنوات، في ظل علاقات طيبة جدًا، لکن الأمور سرعان ما ساءت مع أصهاري. وبما أن زوجي کان کثير الغياب بحکم عمله في الصحراء؛ فقد فُرِضَت عليَّ العناية بمنزل أفراد عائلته، وتحمُّل الإهانات المستهترة والجارحة الصادرة عن والدته. وفي إثر نشوب إحدى المشادات الساخنة أخرى، لذت بالفرار برفقة طفلنا الرضيع“.
”حاول زوجي إقناعي بالعودة، ولکن دون جدوى. فإذا به يقرر، وعلى الفور، الزواج بامرأة أخرى، ويأخذها معه إلى الصحراء. وبهذا وجدت نفسي وحيدة في خوض معرکة لاستعادة ابني من أيادي أهل زوجي السابق. وبفضل جهود أحد المحامين، تمکنت من استرداد طفلي بين أحضاني. ثم بدأت على التو في اتخاذ الإجراءات الضرورية، للحصول على نفقة تمکنني من تحمل مصاريف تنشئته، غير أنني اضطررت بسرعة إلى الاستسلام، أمام طول مدة الإجراءات وتعقيداتها المکلفة ماليا. وفي ظل هذه الظروف الصعبة، لم يسعفني زوجي السابق، في أي مرحلة من المراحل، بما من شأنه أن يُسهم في تنشئة ولدنا“.
”ولذلک توليت تدبير أموري الخاصة بنفسي. وأمام فقر عائلتي الشديد، لم أرغب في أن أصبح مصدر عبء جديد قد يثقل کاهلها، من جراء وجود فردين إضافيين يتعين إطعامهما. حاولت وقتئذ البحث عن فرصة للعمل، وفي البداية لم يوافق والدي على عملي خارج القرية؛ فأقبلت على الاشتغال بأعمال التطريز في المنزل، وحاولت بيع منتوجاته، لکن عائداتها المالية ظلت محدودة وغير کافية. وکان ابني يذهب إلى المدرسة، ويتابع تعليمه بصورة جيدة، لکنه يحتاج دوما إلى اقتناء العديد من الکتب والدفاتر التي لا أستطيع توفير ثمنها. وبقدر ما کان يکبر سنه، كانت تزداد احتياجاته التي لا أقوى على تلبيتها. وتبعا لهذا، تمکنت من إقناع والدي بالسماح لي بالذهاب للعمل في أحد مصانع الفلفل الأحمر الذي ينتج أکياسا معبأة بمسحوق من الفلفل الحلو. وکان المدير المشرف على هذه الشرکة إسبانيًا، فاعتاد على نقلي في شاحنة صغيرة ليأخذني برفقته إلى المصنع. وکنت أتقاضى أجرا يوميا قيمته 30 درهمًا (أي حوالي 3 يورو)، مقابل العمل من السابعة صباحًا حتى منتصف النهار، ومن الواحدة ظهرًا حتى الخامسة مساءً. لکن انتقال الشرکة إلى مرحلة اعتماد المکنَنة في طريقة عمل، أسفرت عن التقليل من الحاجة إلى استخدام اليد العاملة. ثم توفي المدير الإسباني، وتقرر إغلاق المصنع، ولذلک لم تستغرق مدة عملي فيه أکثر من أربع سنوات فقط. وقد أتاح لي عملي هذا فرصة سانحة للتعرف على نساء أخريات، کنَّ يتخبَّطن مثلي في المعاناة من العيش في أوضاع غير مستقرة، حيث کان معظمهن من بين النسوة المطلقات أو الأرامل، ولديهن مثلي بعض الصِّبية والأولاد. وکانت هذه أول تجربة مهنية حقيقية، خضت غمارها في دنيا العمل“.
”بعد هذا، اضطررت إلى البحث عن فرصة عمل بديلة، فأبديت رغبتي في التردد على ’الـمُوقَفْ‘، غير أن مسافة الوصول إليه كانت بعيدة، مما ألزمني الذهاب إلى أفورار، بقصد الإقامة هناک. خاصة وأن والديَّ لم يوافقا على ذهابي إلى ’الـمُوقَفْ‘، بحکم التصاق السمعة السيئة بالفتيات اللواتي اعتدن الذهاب إليه، فکانا يخشيان أن أصبح مثلهن. واقترحت عليّ ابنة عمي المطلقة فکرة الذهاب معها إلى أگادير للعمل هناک. وکان ابني وقتئذ في القسم الثاني من مستوى التعليم الإبتدائي، فلم يتوقف عن المطالبة بالمزيد من المصاريف المالية، غير أن أبي لم يرغب في أن أذهب إلى أگادير. وفي السنة الأولى، استجبت لرغبته فلم أذهب. أما في العام التالي، فقد أصبح الأمر صعبًا للغاية من الناحية المادية، لدرجة جعلتني أتوقف عن الاستجابة لأمره. فذهبنا إلى بني ملال للإقامة فيها مع فتاة أخرى کانت موشکة على الرحيل، ثم سافرنا معها، ومکثنا عندها لمدة إقامة استغرقت أربعة أيام في أگادير. وبرفقة قريبتي، قمنا بجولة طفنا خلالها على مصانع أگادير، وکنا نُسأل في کل مرة، عما إذا كان سبق لنا الالتحاق من قبل بصفوف الدراسة، فلم نکن نريد الکذب بهذا الشأن. وقد ذهبنا إلى مصنع للزهور يديره أحد الإسبان، وحين سألنا هو الآخر عما إذا سبقت لنا الدراسة، أجبناه معا بأننا لم نذهب قط إلى المدرسة. وتوسلنا إليهم على أمل أن يقبلونا، لکنهم رفضوا. وبعدئذ ذهبنا للعمل في مصنع للأسماک في ميناء أگادير. وبما أنني کنت أمتلک خبرة سابقة في مزاولة العمل في أحد المصانع، وافق رب العمل على التحاقي بالشغل في مصنعه، بينما رفض السماح بمثل ذلک لقريبتي. وبما أننا لم نکن نريد أن نفترق، لم أجد بدّا من رفض الاشتغال بذلک المعمل. وأمام صعوبة الحصول على فرصة للعمل في المصنع، قررنا الانطلاق من جديد في محاولة للبحث عن عمل في المزارع. غير أن ابنة عمي اليافعة، التي لم يسبق لها أبدًا مزاولة أي شغل، کما أنها ترعرعت في المدينة، لم تستطع تحمل مشاق العمل في المزرعة. وقد باشرنا العمل معا، فاشتغلت أنا في جمع محصول الفاصوليا، بينما انکبت ابنة عمي على جني فاکهة الفراولة. وبعد مضي يومين، يئست رفيقتي من مواصلة العمل، في حين استطعت أنا الصمود لمدة أسبوع“.
”قضيت عدة أشهر من العمل في أگادير. وعندما عدت إليها من جديد بعد أيام العطلة، اصطحبت معي نساء أخريات قدمن من بلدتي، وهن من المطلقات والأرامل اللواتي کنّ بحاجة إلى العمل. وفي بداية الأمر، أخذنا نشتغل في الحقول. وحسب المواسم، خدمنا إما في قطف الفاصوليا والفلفل، أو في جمع بعض الخضر من قبيل الطماطم وکذلک البازيلاء والکوسة أو القرع، وما إلى ذلک. وکنا نتقاضى في اليوم حوالي 50 درهمًا، أي ما يعادل حوالي 5 يورو. وقد سکنت مع فتيات أخريات في منازل تقاسمنا مصاريف استئجارها بين بعضنا البعض. وفي يوم السوق الأسبوعي، کان المدير يأخذنا راکبات معه للتسوق، مع وجود بعض الرجال معنا أيضاً، غير أننا کنا نشتغل منفصلين عنهم في الحقول“.
”ثم عملت بعد ذلک، في مصنع لتعليب الطماطم يديره أحد الإسبان، والذي أسعده عملي، نظرا لما أظهرته من الجدية، وما تحليت به من حسن الضمير والسرعة في إنجاز المهام الموکلة إليَّ في تنفيذ الشغل. ودأبت على العمل انطلاقا من السابعة صباحًا، حتى حلول منتصف النهار، ومن الواحدة ظهرًا حتى الخامسة مساءً، لأتقاضى مقابل عملي هذا، أجرا بقيمة 5.50 درهمًا عن کل ساعة. واشتغلت في بعض الأحيان، لساعات إضافية، تمتد من السادسة مساءً إلى منتصف الليل. وتبعًا لکل هذا، کنا نعمل ليلاً ونهاراً مقابل استلام أجر زهيد جداً، لأن مستويات الأجور في المغرب، کانت مزرية ومتدنية للغاية“.
”استغرقت مدة بقائي في أگادير، سبع سنوات. ثم فضلت بعد ذلک، العودة إلى بيت أهلي، بسبب المرض الذي أصاب والدي، حيث التحقت هناک بالعمل في قطف الزيتون والتقاطه على مقربة من مدينة بني ملال“.
فرصة الذهاب إلى إسبانيا
”ثم جاءت فرصة مناسبة للعمل في إسبانيا، ويعود الفضل في ذلک إلى صديقة من البلدة حدثتنا في شأنها. وفي إثر ذلک، توجهت أنا وأربعة من صديقاتي، للتسجيل في قائمة الوکالة الوطنية لإنعاش التشغيل والکفاءات، المعروفة اختصارا باسم أنابِّيک (ANAPEC). غير أن إحدى صديقاتي قُوبل طلبها بالرفض، بدعوى أنها وإن کانت مطلقة، فقد اعتُبر ابنها کبيرا في السن، بحکم بلوغه من العمر 24 عامًا، حسبما انتهى إليه العاملون بالوکالة الوطنية لإنعاش التشغيل والکفاءات. کما لقي طلب صديقة أخرى، رفضا مماثلا، على أساس اعتبارها مطلقة، ولکنها دون أطفال. ويبدو في هذه السنة، أن الوکلاء الإداريين التابعين لمصالح القيادات والبلديات، قد ذهبوا للبحث عن بعض النساء القاطنات في المناطق الجبلية، تحت حجة مفادها، حسب رأيهم، أن فتيات البلدة، لا قدرة لهن على العمل“.
”وکان قد عُقد أول اجتماع تحضيري بمدينة المحمدية؛ فلم يقبل القائمون على عملية التسجيل بالفتيات الممتلئات، بحجة عدم قدرتهن على العمل. ولم ينظر المکلف بمهمة التوظيف إلى يديّ، غير أن بعض صديقاتي أبلغنني بأن أياديهن خضعن للفحص والمعاينة. حتى إن البعض منهن، کن لا يتردَّدن في القول إنه من الأفضل أن تکوني قبيحة الشکل للتمکن من الفوز بفرصة الالتحاق بالعمل. ومن الأهمية بمکان، في البداية، أن لا تأتين بمظهر متأنق، أو متزينة بمستحضرات التجميل. ينبغي أن تظهري بهيئتک الطبيعية والمعتادة لديک. أما أنا، فقد ذهبت مرتدية جلاّبتي. وبلغ عدد النساء اللواتي توجهن إلى المحمدية 6000 امرأة، فوقفنا جميعاً، ونحن مصطفات في هيئة طابور واحد، وکل واحدة منا تتدافع مع الأخرى. ثم استُعرضت على شاشة التلفزيون، ملامحنا وطريقة العمل والکيفية التي يتعين علينا اتباعها أثناء القيام بجمع الفراولة في إسبانيا، فجاء العرض في صورة مبهرة ومثيرة للإعجاب. وانطلقوا يُنَادون علينا بأسمائنا الشخصية والعائلية، فإن کتب لک الظفر بالحصول على الورقة الخضراء، فيعني ذلک أنک فزت بفرصة العمل. لقد أضحکنا هذا الأمر کثيراً، لأنّک عندما تفکرين مليًّا في حصيلة ذلک، تدرکين حقا بأننا ناضلنا بکل ما نملکه من قوة، من أجل الذهاب إلى العمل في ظل ظروف بئيسة، لأن الفقر في نهاية المطاف هو الذي أجبرنا على خيار المغادرة“.
”ثم رتَّب لنا وکلاء أنابِّيک موعدا للقاء، تم عقده في طنجة بتاريخ 3 دجنبر؛ فکان عددنا الملتئم هناک کبيرا، في ذلک اليوم بحضور الآلاف من النساء. وغادرت يوما بعد ذلک، في 4 دجنبر إلى إسبانيا، وتلک هي المرة الأولى التي رکبت فيها على متن الباخرة، مما جعلني أشعر بالخوف الشديد. وقد أخذ منا وکلاء أنابِّيک جوازات سفرنا، وعند وصولنا إلى طريفة، وجدنا العديد من الوسطاء في انتظارنا وهم يحملون مکبرات صوت للمناداة بها علينا، فأخذوا منا جوازات سفرنا مرة أخرى. وکانت هناک خمس حافلات في انتظار وصولنا، فنقلتنا على متنها بمعدل حوالي ستين راکبة في الحافلة الواحدة. ثم توقفنا بعدئذ في مدينة إشبيلية لتناول الطعام، فبدت جميع الأمور بصورة عملية ومحکمة التنظيم“.
”ثم وصلنا إلى موگير (Moguer)، حيث کانت هناک فتيات من أزيلال ترکبن في بقية الحافلات الأخرى، ما فتئن أن لوّحن نحوي بأيديهن فبقيت برفقتهن. وبعدئذ رکبنا حافلة أخرى مع أحد الإسبان، الذي اصطحب معه حوالي خمسين امرأة. وبعد أن سارت بنا مرکبتنا منطلقة من موگير، لمدة حوالي نصف ساعة، انتهى بنا الحال إلى وسط البيوت البلاستيکية. وقد وضع رب العمل الإسباني رهن إشارتنا منزلاً يکفي لإيواء حوالي عشر فتيات، فکنا أربع بنات في الغرفة الواحدة. ثم أعطانا ثلاثة أقفال جديدة لاستخدامها في إقفال الغرف، واکتفى في حديثه إلينا بإطلاق بعض الإيماءات. ونبَّهنا لضرورة الاحتراس من الجيران الذين کانوا يتکونون من الماليِّين، فنعتهم بسکان کوکاکولا. وقد أشار مُلمِّحا بيده، فلمس بطنه ليقول لنا ما معناه: ”انتبهن من الوقوع ضحية في فِخاخ الحمل“، وکان يقصد بکلامه التحذير من الماليِّين. ثم أعطانا قنينة من الغاز، وأطلعنا على أرجاء المنزل، کما قام بعدئذ بتوصيل الثلاجة بشاحن الکهرباء، وأرشدنا في الأخير إلى طريقة استعمال آلة الغسيل. ووصل مجموع عددنا کعاملات في هذه التعاونية إلى ستين من الفتيات والنساء، أو نحو ذلک. 19 عاملة من المغربيات، وشملت البقية بعض الماليات والرومانيات والبُّولونيَّات. کان هناک أحد المغاربة مع المدير، فترجم لنا أقواله الموجهة إلينا. وأسدى إلينا العامل المغربي المشار إليه بعض النصائح؛ أجملها في ضرورة التعامل بانسجام مع بقية العمال من أفراد الجاليات الأخرى، بما فيهم من النسوة البُّولونيات والماليِّين الذين وصفهم بالجيدين جدًا، لکنه نبهنا إلى ضرورة التحلي بالحذر تجاه الرومانيَّات، اللواتي قال في حقهن بأنهن شبيهات بالمغربيات، أي أنهن کن سيئات“.
”عندما وصلنا، ضبطنا ساعاتنا وفقا للتوقيت المحلي، وذهبنا لأداء صلواتنا…“
”ولم تمضِ سوى بضعة أيام، حتى تأکَّد الخبر بوجود أربعة ”هاربات“، حيث ذهبت واحدة منهن إلى بوردو في فرنسا، بينما بقيت الثلاثة الأُخريات في إسبانيا. وأتى عندنا رب العمل للتحقيق معنا، لکنه في النهاية لم يکن لدينا ما نخبره به. وحينها بدأ ينعتنا بالکاذبات، وأضاف قائلاً إن الفتيات المغربيات وحدهن من يقدمن على الهرب، فيما اتسمت الفتيات من الجنسيات الأخرى بالجدية…“
”وفي موگير وجدت العديد من الفتيات اللواتي جئن من شتى أنحاء المغرب، بما في ذلک بعض الفتيات اللواتي سبق لي العمل معهن في أگادير…“
”ولم يکن لدينا في البداية أي مستلزمات للاستعانة بها في تنفيذ العمل. وکانت الفتيات البُّولونيَّات ينتعلن أحذية طويلة، بينما افتقرنا نحن تماما إلى ذلک؛ فکنّ يضحکن منَّا طيلة الأيام القليلة الأولى، وهن ينتظرننا عند أول الطريق وزواياه. وحينها بدأنا نحن المغربيات بالعمل الجاد، وبذلنا قصارى جهودنا حتى نثبت لهن قدرتنا على التحدي والقيام بذلک. إذ لم نتقاعس عن القيام بمهامنا المطلوبة، وفهمنا کيف تجرى الأمور. وکنا نضع ما نقطفه من فاکهة الفراولة، شديدة النضج جانباً، لاستخدامها في تحضير العصير والمربى“.
”في البداية اعتدنا على وضع قفازات لحماية أيدينا، لکن الإسبان طلبوا منا نزعها بحجة أنها تتسبب في إلحاق الضرر بالفراولة، فخلعناها امتثالا لهم، غير أن قطف الفراولة يؤذي سلامة اليدين. ومع ذلک، فإن هذا الأمر لا ضير فيه، لأننا قدمنا من أجل القيام بذلک العمل. لکن الفتيات البولونيات تمرّدن على ذلک القرار، ولم يوافقن على خلع قفازاتهن، فأصررن على الاحتفاظ بها. ولم نتفوه في إثر ذلک بأي کلمة، إذ لم نجرؤ على المواجهة. کما ارتدينا الحجاب والسراويل والقمصان ذات الرقاب العالية، وکذلک القبعات، لوقاية أجسادنا وبشراتنا من الحرارة، تفاديا بذلک للعودة إلى المغرب بملامح وأجسام سود بالکامل. ومن جهة أخرى، اتسمت درجات الحرارة بارتفاعها الشديد داخل البيوت البلاستيکية، إلى درجة تشعر معها الفتيات العاملات، في بعض الأحيان، بالإعياء وصعوبة التنفس. ويبدو أن العاملات في بعض التعاونيات مُنعن من ارتداء الحجاب بسبب ذلک. في حين، لم يُطلب منا أي شيء آخر سوى تجنب ارتداء الکثير من الملابس“.
”وبعد ثلاثة شهور من العمل المتواصل، لم نعد نستطيع تحمل المزيد من الضغط على أنفسنا، لکننا اعتدنا على ذلک. وخلال الأيام العشرة الأخيرة، لم نعد نقوم بعملية الفرز، بل صرنا نضع کل ما نجمعه في العربات ذاتها، إذ کانت حبات الفراولة ناضجة للغاية. ثم بعدها، صار من المتعين علينا أن نتولى مهمة تنظيف فضاء التعاونية. وفي نهاية المطاف، قرروا تخفيض أجورنا، فصاروا يدفعون لنا أتعاب مجهودنا حسب معيار الکيلو، بدلاً من تحديدها بالساعة. وقبل أن نغادر، أخبرنا حينها خوسي، وهو رب الشغل، الذي کان راضيا عن عملنا، أنه سيعاود الاتصال بنا من جديد، في العام اللاحق“.
”وخلال السنتين ما بين 2008 و2010، اشتغلت على عادتي لصالح خوسيه في موگير. ولکنه في سنة 2011، سلّمنا عقودًا مؤقتة للعمل معه مرة أخرى، وحينما وصلنا إلى إسبانيا، رفض أن يأخذنا للعمل معه من جديد. والظاهر أنه خلال الشهر الذي سبق ذلک، حدثت مشاجرات متکررة وأعمال سرقة، اقترفتها امرأة مغربية؛ فأصبح الرجل في إثر ذلک، غاضبا ومستاءً للغاية، إذ ضاقت نفسه ذرعاً بمشاکل النساء المغربيات، فرفض المجيء لاصطحابنا للعمل لديه. وهکذا، کنَّا بصحبة صديقتين اثنتين من أزيلال، آخر من بقي على متن الحافلة، في انتظار المناداة على أسمائنا. وکان الوقت متأخرا، والخوف يساورنا من عدم مجيء أي أحد لأخذنا للعمل عنده، وخشية من الطرد، ومن عدم القدرة على إيجاد أي فرصة للعمل في هذا العام، ومن الاضطرار في نهاية الأمر للرحيل إلى المغرب، دون أدنى فلس واحد، ومخافة من التعرض هناک إلى الهوان والاستصغار. وحاول الوسطاء جاهدين، أن يبثوا الطمأنينة في نفوسنا؛ فاضطروا إلى الاتصال بالعديد من أرباب العمل الذين لم يکونوا على علم بحالتنا، لإخبارهم بوجود ثلاث نساء مغربيات يبحثن عن العمل، ولاستفسارهم عن مدى استعدادهم للتعامل معنا. وهکذا انتهى بنا المطاف، في إل روسيو، حيث طلب مني رئيس العمال هناک أن أخرج برفقته، لکنني لم أرغب في ذلک“.
“وکان رئيس العمال، المرتبط بشراکة مع شخص ألماني، قد أخبرنا بصريح العبارة، في عام 2013، أنه کان راضياً عن حصيلة عملنا، إلا أنه أکد لنا عدم تمکنه من استقدامنا في العام اللاحق، لعجزه على دفع تکاليف التأمين الخاص بنا، نظرا لمشاکله المالية. وحينها قررت البقاء. وقبل أن آتي إلى إسبانيا، کنت عازمة على البقاء وعلمت بذلک بعد أن اتخذت القرار بهذا الشأن. وقد دأبت على المجيء في کل عام منذ سنة 2008. ولوقت طويل، ظل هدفي الرئيس هو العودة إلى المغرب، ثم الانطلاق من جديد في العام الذي يليه. وغالبا ما انتقدت بشدة الفتيات اللواتي يهربن، اعتقادًا مني أنهن من ذوات الأخلاق السيئة، وأنهن نسوة يخُنّ أزواجهن، ويتناولن الدخان، ويشربن الخمر، ويخرجن مع الرجال… کان هناک ضغط من العائلة غير المستقرة على حال، والتي طالبتني أحيانًا بالبقاء، وبالعودة في أحيان أخرى، مما صار معه اتخاذ القرار أمراً صعباً للغاية. لکنني سئمت من کثرة التنقلات ذهاباً وإياباً. تعبتُ من قطع المسافات، بالذهاب إلى طنجة، والقيام برحلة العبور البحرية، دون أن أعرف بتاتا، أين سيستقر بي المآل عند وصولي. کنت قد ضقت ذرعًا أيضًا من إنفاق کل ما أتقاضاه من أجر مقابل عملي، ولم يعد ذلک کافياً لأعيش به بعد الآن. والأدهى من ذلک، فإنک بحاجة إلى التوفر في حوزتک، على مبلغ 300 يورو على الأقل، قبل المغادرة. ولکنني لم أجد من يُقدّم لي أي سلفة بهذا المبلغ. وتبعا لکل هذا، فقدطفح بي الکيل، وأصبحت أخشى عدم القدرة على العودة. کثير من صديقاتي بقين وحصلن على أوراق إقامتهن. وقد استسلمت أمام رغبتي في بذل المحاولة، من أجل إدراک ما حققوه“.
محنة ” مهاجرة مفتقرة لأوراق ثبوتية“
”في ظل هذه الظروف الحرجة، عانيت من تبعات العيش في کنف الحياة السرية، ومن آلام الشعور بـ ”الحگرة. وقد تعرضت وقتئذ للاحتقار ولمختلف مظاهر الإذلال والظلم، کما قاسيت الأمرَّين، من جراء تدني الأجور والاستغلال على أيادي الإسبان وبعض المغاربة الذين کانوا على بينة من أنني معوزة وفي أمس الحاجة لکسب قوت يومي. ومع ذلک، فقد عزمت على الحصول على أوراق ثبوتية بأي ثمن. ولذلک قررت البقاء في إل روسيو، حيث تقاسمت مسکني في شقة مع شخصين مغربيين. وبفضل عقد العمل الذي حصلت عليه، تمکنت من تسوية وضعيتي. ذات صيف عوضتُ فتاة من تنحدر من أولاد موسى، قرب بني ملال، في العمل لدى عائلة إسبانية، فقررت إبقائي في خدمتها. وفي واقع الحال، فإنني لم أشتر هذا العقد بصريح العبارة، لکن الأمر ليس بمختلف عن ذلک. لقد اعتدت على تقاضى أجر بسيط وزهيد للغاية، وکأن صاحب العمل يأخذ مني کل شهر تکاليف العقد الذي حرره لفائدتي. والبعض من الناس يبيعون العقود بمبلغ يناهز 5000 يورو. أمّا رب عملي، فيدفع لي 500 يورو شهريا، مقابل المواظبة على العمل کل يوم ما عدا أيام الجمعة. أبدأ في الثامنة صباحًا ولا أنتهي کل يوم إلا مع حلول الساعة الثامنة مساءً. إنني لا أتوقف أبداً عن مزاولة الأشغال، فالعمل متعب للغاية. وبمجرد ما أحاول الجلوس لأخذ قسط من الراحة، يجدون لي مهمة إضافية ما، ينبغي أن أسارع إلى الانكباب على تنفيذها. مساحة المنزل شاسعة، ويتواجد بداخله الزوجان العجوزان، رفقة ابنتيهما وزوجيهما وأحفادهما أيضاً. وفي کل عطلة نهايات الأسبوع، يحضر الجميع للقاء في هذا البيت. وفضلا عن مشاق الأعمال اليومية، يتعين علينا أيضًا الاهتمام بمطالب الأحفاد. وکنا أربعة نساء نعمل عندهم؛ أُولَانَا الفتاة التي أعمل هنا بفضل وساطتها، ويعطيها رب العمل راتباً مقداره 800 يورو، علما بأنها تعمل عندهم منذ عشر سنوات، وهي تعتني بالسيدة العجوز، کما تسهر على إعداد وجبات الطعام، وتعيش معهم في الدار ذاتها. وتوجد امرأة ثانية إسبانية تتولى الاعتناء بالسيدة العجوز وإعداد الوجبات أيضاً، فتحصل على أجر قدره 600 يورو. بينما تأتي امرأة إسبانية أخرى من وقت لآخر للقيام بأعمال الکي وغيرها من الأشغال المنزلية. أما أنا فأقوم بالأعمال المنزلية، بما في ذلک تنظيف الأرضيات والغسيل وتعهُّد الملابس وترتيبها وإزالة الأتربة، وما إلى ذلک. کما أنني أساعد الآخرين في تحضير وجبات الطعام، أو عندما تکون النسوة الأخريات منهمکات للغاية في قضاء أشغال کثيرة. وفي بعض الأحيان كنا نساعد بعضنا البعض“.
”لکن حياة الغربةتعتبر أمرا صعبا جدًا، إذ يقول بشأنها المغنيالشاب خالد ما يلي: ”الغربةيا الغربة، يا صعيبة وغدارة“؛ وعندما أغني کلمات هذه المقطوعة، يمتلئ صوتي بالدموع، ويتردد صداها في حلقي. غير أنني كنت تماسکت، وأفلحت في الصمود. إلى أن تمکنت أخيرًا، في شهر شتنبر من عام 2017، من الحصول على أوراقي الثبوتية، في هيئة ترخيص بالإقامة لمدة سنة واحدة، فعدت في إثر ذلک إلى المغرب لقضاء مدة شهر واحد، للمرة الأولى منذ أربع سنوات. واستطعت في نهاية الأمر، أن أزور والدي المريض مرة أخرى، وکذلک من رؤية والدتي التي تقدمت بها السنوات کثيرًا، فضلا عن اللقاء بإخوتي وأخواتي، وأيضا بابني الذي صار رجلاً في مدة غيابي… “
شادية أعراب – ترجمة خالد بن الصغير
نساء الفراولة، أنامل ساحرة في محك الهجرة ؛ خفايا الهجرة الموسمية المغربية إلى إسبانيا – شادية أعراب – ترجمة خالد بن الصغير – 2025
اكتشف اللخص هنا.